مقام العبودية(*)
انعطاف: اعلم أن أَجَلَّ مقام أقيم العبد فيه مقام العبودية، وكل المقامات إما هي كالخدمة لهذا المقام، والدليل على أن العبودية أشرف مقام: قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾([1])، ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾([2])، ﴿كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾([3])، ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ﴾([4])، ولما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا مَلِكًا أو نبيًّا عبدًا -اختار العبودية لله تعالى؛ ففي ذلك أَدَلُّ دليل أنَّها من أفضل المقامات وأعظم القربات.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا عبد لا آكل متكئًا، إنما أنا عبد الله، آكل كما يأكل العبيد([5])»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»([6]).
سمعت شيخنا أبا العباس -رحمه الله- يقول: «ولا فخر؛ أي لا أفتخر بالسيادة، إنما الفخر لي بالعبودية لله تعالى، ولأجلها كان الإيجاد».
وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾([7])، والعبادة ظاهر العبودية، والعبودية روحها، وإذا قد فهمت هذا فروح العبودية وسرها إنما هو ترك الاختيار وعدم منازعة الأقدار؛ فتبين من هذا أن العبودية ترك التدبير والاختيار مع الربوبية، فإذا كان لا يتم مقام العبودية الذي هو أشرف المقامات إلا بترك التدبير -فحقيق على العبد أن يكون له تاركًا، وللتسليم لله تعالى وللتفويض له سالكًا؛ ليصل إلى المقام الأكمل، والمنهج الأفضل.
وسَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر([8]) رضى الله عنه يقرأ ويخفض صوته، وعمر([9]) رضى الله عنه يقرأ ويرفع صوته؛ فقال لأبي بكر: «لم خفضت صوتك؟» فقال: «قد أسمعتُ من ناجيت»، وقال لعمر: «لم رفعت صوتك؟»، فقال: «أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان»؛ فقال لأبي بكر: «ارفع قليلًا»، وقال لعمر: «اخفض قليلًا»، فكان شيخنا أبو العباس -رحمه الله تعالى- يقول: «ها هنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج كل واحد منهما عن مراده لنفسه لمراده صلى الله عليه وسلم ».
تنبيه: تَفَطَّنْ -رحمك الله- لهذا الحديث تعلم منه أنَّ الخروج عن الإرادة هي أفضل العبادة؛ لأنَّ أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كل واحد منهما قد أبان -لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن صحة قصدها، وبعد ذلك أخرجهما رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عَمَّا أراد لأنفسهما مع صحة قصده(1) إلى اختيار رسول الله عليه الصلاة والسلام.
([5]) أخرجه الترمذي، ورواه البخاري عن أبي جحيفة -رضي الله تعالى عنهما- بلفظ «أما أنا فلا آكل متكئًا»، وفي رواية البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأبو بكر الشافعي في فوائده من حديث البراء رضى الله عنه: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد».
ومما يؤيد أفضلية مقام العبودية قول العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في الحالة العلية، وقول القشيري رضى الله عنه : «لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية؛ تواضعًا للأمة» انظر «تفسير القرطبي» جـ10 ص205، وقول العلماء أيضًا: «لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الحظوظ سمَّى الله نبيه عبدًا».
([6]) الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه وفي رواية لأبي داود ومسلم عن أبي هريرة قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع».
([8]) هو الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رضي الله عنه واسمه عبد الله، ولقب بعتيق وبالصديق، وكنيته أبو بكر، وجمهور أهل النسب على اسمه الأصلى عبد الله سماه به النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أسلم، وكان اسمه من قبل عبد الكعبة، وهو أشهر من أن يُعَرَّفَ، وتاريخه الحافل بالمجد والفخار وسيرته العطرة بالثناء عليه من رسول الله، وصحبته الشريفة للنبي الكريم -كل ذلك يجعله دائمًا في وضوح واضح وشهرة مشهورة رضي الله عنه وأرضاه، وإن أردت معرفة الكثير عنه فأقرأ كتب السيرة والتاريخ الإسلامي، و«أبو بكر الصديق» للخطيب.
([9]) هو ثاني الخلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب، وهو أول من سمي أمير المؤمنين، وقد كناه عليه الصلاة والسلام بأبي حفص، أسلم سنة ست من البعثة، وهاجر إلى المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم ، وشهد المشاهد كلها، وفتح الشام ومصر والعراق والموصل وغيرها والكوفة والبصرة، وولى القضاء في الأمصار، ودَوَّن الدواوين، وتزوج النبيُّ > ابنته حفصة، ومات شهيدًا، قتله أبو لؤلؤة وهو يصلي صلاة الفجر، رضي الله تعالى عنه.