قم بخدمتنا ونحن نقوم لك بقسمتنا(*)
الفائدة الرابعة: قوله تعالى: ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ [طه: 132]؛ أي: لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، وكيف نأمرك بذلك ونكلفك([1]) أن ترزق نفسك، وأنت لا تستطيع ذلك؟! وكيف يحمد بنا أن نأمرك بالخدمة، ولا نقوم لك بالقسمة؟! فكأنه سبحانه لما علم أن العباد ربما يشوش عليهم طلب الرزق في دوام الطاعة، وحجبهم ذلك عن التفرع للموافقة، فخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ليسمعوا فقال: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾؛ أي: قم بخدمتنا ونحن نقوم لك بقسمتنا، وهما شيئان: شيء ضمنه الله لك فلا تتبعه، وشيء طلب منك فلا تهمله، فمن اشتغل بما ضمن له عَمَّا طلب منه -فقد عظم جهله، واتسعت غفلته، وقَلَّمَا يتنبه لمن يوقظه، بل حقيق على العبد أن يشتغل بما طلب منه عَمَّا ضمن له.
إذا كان سبحانه قد رزق أهل الجحود، فكيف لا يرزق أهل الشهود! وإذا كان قد أجرى رزقه على أهل الكفران، فكيف لا يجري رزقه على أهل الإيمان!.
فقد علمت أيها العبد أنَّ الدنيا مضمونة لك، مضمون لك منها ما يقوم بأودك، والآخرة مطلوبة منك؛ أي العمل لها بقوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾([2])؛ فكيف يثبت لك عقل أو بصيرة، واهتمامك فيما ضمن لك اقتطعك عن اهتمامك بما طلب منك، حتى قال بعضهم: «إن الله ضمن لنا الدنيا، وطلب منا الآخرة فليته ضمن لنا الآخرة، وطلب منا الدنيا». اهـ.
وأتى قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ على هذه الصيغة؛ ليدل ذلك على الاستقرار والدوام؛ لأن قولك: «أنا أكرمك»، ليس كقولك «أنا أكرمتك»؛ لأنَّ قولك: «أنا أكرمك» يدل على إكرام بعد إكرام، وقولك: «أنا أكرمتك»، لا يدل إلا على أن([3]) ثَمَّ إكرامًا كان([4]) وقوعه فيما مضى من غير أن يدل على التكرار والدوام.
فقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾؛ أي: رزقًا بعد رزق، لا نعطل عنك مِنَّتَنَا، ولا نقطع عنك نِعْمَتَنَا، ولما تفضلنا على العباد بالإيجاد؛ فكذلك أيضًا قمنا لهم بدوام الإمداد، ثم قال تعالى: ﴿وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾، كأنه تعالى يقول: نحن نعلم إذا تَبَتَّلْتَ لخدمتنا، وتوجهت لطاعتنا، مُعرضًا عن أسباب الدنيا تاركًا للدخول فيها، والاشتغال بها، لا يكون رزقك فيها رزق المترفين، ولا عيشك عيش المتوسعين، ولكن اصطبر على ذلك؛ فإن العاقبة للتقوى، كما قال تعالى في أول الآية الأخرى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾([5]).
فإن قلت: لماذا خص التقوى بالعاقبة، وأهل التقوى لهم مع العاقبة العيشة الطيبة في الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾([6]).
فاعلم أنه تعالى يخاطب العباد على حَسَبِ عقولهم، فكأنه يقول: أيها العباد، إن نظرتم أن لأهل الغفلة والعدوان بداية؛ فلأهل التقوى والإيمان نهاية، والعاقبة للتقوى، فخاطب العباد على حسب ما تصل إليه عقولهم وتدركه أفهامهم، كما جاء: «الله أكبر» وإن كان غيره لم يشاركه في الكبرياء، ولكن لما كانت النفوس قد تشهد كبرياء الآثار، كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾([7])، فكأنه يقال لها: إن كان ولا بد وشهدتَ لشيء كبرياء فالله عز وجل أكبر منه وأكبر من كل كبير، كما جاء: «الصلاة خير من النوم»، فلو قيل: ليس في النوم خير؛ قالت النفوس: قد أدركت لذاذاته وراحته؛ فسلم لها ما أدركت، ثم قيل لها: ما دعوناك إليه خير مما هو خير عندك، الصلاة خير من النوم؛ لأنَّ ما مِلْتِ إليه من المنام عرض يفني، وما دعوناك إليه معاملة يبقي جزاؤها ما يفنى، وما عند الله خير وأبقى.