يقول مولانا الإمام العلامة د. علي جمعة في خطبته الشهيرة بمسجد سيدي أبي الحسن الشاذلي في حميثرة:
سيدي أبو الحسن الشاذلي -رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا الله به في الدارين - من نسل الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما أحد الريحانتين حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويروي عن جده الإمام الحسن عن أبيه عن جده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أحسن الحسن الخلق الحسن".
كان في طريقه إلى الحج فدعا الله سبحانه وتعالى أن يقبضه إليه في مكان لم يعص الله فيه قط ، فأماته الله في هذا المكان المبارك "حميثرة" وكان سيدي أبو الحسن مستجاب الدعاء.
وقد ورث القطبانية عن شيخه الذي بحث عنه كثيراً وهو سيدي ابن مشيش.
ولد رحمه الله تعالى في بلاد غمارة من المغرب الأقصى ، وهي بلاد حل فيها أهل البيت الكرام من نسل سيدنا الإمام الحسن بن علي رضوان الله عليهما ، وهم باقون فيها إلى اليوم ، وعلى رأس المغرب الأقصى ملك من أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأراد سيدي أبو الحسن عندما شبَّ وتعلق قلبه بالله أن يأخذ من موثوق به وبعلمه وبتقواه فذهب إلى العراق يبحث عن القطب ، وهناك في العراق قبل زمانه كان يعيش الإمام القطب الرفاعي ، وقد انتقل ودفن في بلدة أم عبيدة ، وقابل سيدي أبو الحسن تلميذ الإمام الرفاعي وهو ولي الله الواسطي وقال له " إني أبحث عن القطب يرشدني" فكان يريد أن يأخذ طريقاً صحيحا يطمئن إليه قلبه لأن الطريق إلى الله فيه مزالق وقد يتخلله دعوى ، فأجابه الواسطي: " أتبحث هنا عن القطب والقطب في بلادك ! " فرجع إلى المغرب قافلاً ، حتى هداه الله تعالى إلى سيدي عبد السلام بن مشيش المدفون في العرايش على قمة جبل، وكانت خلوته عند أسفل الجبل بجوار عين ماء فجرها الله سبحانه وتعالى لهؤلاء العباد.
قبل أن يلقى سيدي ابن مشيش - او ابن بشيش - وهو ذاهب إليه فقيراً إلى الله من علمه وعمله تواضعاً.
فلما التقى به أخبره بنسبه ، وجلس معه وأخذ عنه.
فما الذي أخذ سيدي أبي الحسن ؟ أخذ خصلتين قال عنهما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجع عبد قيس " فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله" قال وما هما يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم " الحلم و الأناة" فأمرنا صلى الله عليه وسلم بالحلم وعدم الجهل على الناس ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشاه بذيئنا ولا فاحشاً ولا متفحشاً ولا سباباً بل كان أحسن الناس في هيأته وخلقه وخلقه وسيرته ومشيته فصلى الله وسلم عليك يا رسول الله.
وقد ترك كثير من المسلمين هذه الخصلة وهي الحلم والحلم يورث الأناة وعدم العجلة. والحلم والأناة تجعل القلب المؤمن قابلاً لنزول السكينة وما أدراك ما السكينة ؟ إنها إيمان فوق الإيمان
( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)
ما زالت السكينة على قلب أبي الحسن الشاذلي فأحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأورث حبه هذا إلى اتباعه إلى يوم الدين ، وعندما تتنزل السكينة على قلب المؤمن يزداد إيماناً مع إيمانه الأول فإن الرحمة تتفجر من القلب ، والرحمة وما أدراك ما الرحمة ! هي الصفة الأساس التي بدأ الله بها كتابه تطمينا لقلوب عباده فقال ربنا
( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ )
فكان يمكن سبحانه أن يقول بسم الله القوي الجبار ، أو المنتقم العظيم ، وما كنا نستطيع أن نطمئن وهو عز وجل يواجهنا بهذه القوة
( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )
لكنه لم يفعل - سبحانه - بل واجهنا بكمال في جمال وبرحمة في رحمة وقال ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ).
فإذا تفجرت الرحمة من قلب العبد عرف شيئا من حقيقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كمال إنسانيته ، وفي جلال مقامه عند ربه ، وفي خاتمية رسالته ، والحقيقة المحمدية شيء كبير لا يتسع لها قلوب الناس.
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته *** قوم نيام تسلوا عنه بالحلمِ
فهو الذي تم معناه وصورته *** ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسم
منزهٌ عن شريكٍ في محاسنه *** فجوهر الحسن فيه غير منقسم
دع ما ادعثه النصارى في نبيهم *** واحكم بماشئت مدحاً فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف *** وانسب إلى قدره ما شئت من عظـم
فإن فضل رسول الله ليس لـه *** حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفم
الرحمن الرحيم جل جلاله يتجلى لمن نزلت السكينة في قلبه فيبدأ في معرفة حقيقة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فيتولد من الرحمة الحب ، والحب قال فيه سبحانه وتعالى
( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )
( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )
وإذا جاء الحب في قلب الإنسان كما تجلى في كلام سيدي أبي الحسن الشاذلي - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - انبثقت الحكمة، قال تعالى
( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا )
وقد شاعت طريقة أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه في العالم ، وصدقها وآمن بها واتخذها كثير من علماء الظاهر ، فتغير سلوك العز بن عبد السلام وكان سلطان العلماء بعد أن اتبع سيدي أبي الحسن الشاذلي في طريقته وذكره الذي التزم بالسنة بقلب منوّر ، وتتلمذ على سيدي أبي الحسن سيدي المرسي أبي العباس ، وقد تتلمذ على سيدي المرسي سيدي ابن عطاء الله السكندري وكان من كبار العلماء.
وردت رواية أن أبا الحسن سأل ربه " يا ربي لما نسبتني إلى الشاذلي وأنا لست منها " حيث كان يمكن أن ينسب إلى غمارة فيقال له الغماري لأنه منها ، فألهمه الله أنه ليس نسبة إلى المدينة إنما هي "شاذ لي " أي فرد من الأفراد. وعلى كل حال لا نقف عند الرسوم والمباني وإنما نغوص إلى المقاصد والمعاني.
وقد كان أن ذهب الإمام أبي الحسن إلى شاذلة بارشاد شيخه ابن مشيش ، وتربى فيها على يديه أربعون من كبار الأولياء ، ثم بعد ذلك جاء إلى مصر واستقر بها ، وتشرفت الديار المصرية أن دفن بها بحميثراء بصحراء عيذاب.
وقد أخذنا طريقة أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه بالسند المتصل ، وكان أول من أجازنا السيد عبد الله بن محمد بن الصديق بن عبد المؤمن الغماري من بلاد سيدي أبي الحسن ، وكان السيد عبد الله الغماري محدث الدنيا ويروي الطريقة الشاذلية عن أبيه عن جده إلى منتهاه ، ثم أخذنا الطريقة الشاذلية عن السيد محمد زكي الدين إبراهيم ، وأخذناها أيضاً عن السيد حسن عباس زكي عن شيخه عبد الفتاح القاضي عن شيخه محمد عبد الوهاب الحصافي عن أبيه السيد عبد الوهاب الحصافي إلى منتاه حتى وصلنا إلى شمس الشموس وبدر البدور سيدي أبي الحسن الشاذلي ، وهكذا أهل الله يعرفون دينهم بالسند المتصل حتى تحدث فيه بركة.