التعريف به:
هو أحد سادات التابعين الكرام.
مناقبه ومروياته:
روي عن الحسن أنه قال: والله ما من الناس رجل أدرك القرن الأول أصبح بين ظهرانيكم إلا أصبح مغموما، وأمسى مغموما.
وروي عن السري بن يحيى عن الحسن أنه قال: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن ،وذبل، وإلا ،نصب، وإلا ذاب، وإلا تعب.
وروي عن جعفر قال سمعت حوشبًا يقول: سمعت الحسن يحلف بالله يقول: والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن، ثم آمنت به؛ ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك.
وروي عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين؛ فمنهم: الحسن بن أبي الحسن، فما رأينا أحدًا من الناس، كان أطول حزنًا منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة، ثم قال: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا؛ فقال: لا أقبل منكم شيئًا، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة، إنه من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدريًا أكثر لباسهم الصوف، ولو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم؛ لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب ولقد رأيت أقوامًا كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقوامًا يمسي أحدهم وما يجد عنده إلا قوتا؛ فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه الله عز وجل، فيتصدق ببعضه، وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه.
وروي عن عبد الله بن أبي الأسود عن الحسن: أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز -والسياق لأبي حميد الشامي - اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى، وإن كان كان كثيرًا يعدل ما يبقى، وإن طلبه عزيزًا، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت الخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، العيون إليها ،ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، ولألبابها دامغة، وهي لأزواجها كلهم ،قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ضنا، وما هذا منالها إلا عشقا، ومن عشق شيئًا لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به، فهما عاشق طالبان لها، فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد، فشغل بها لبه وذهل فيها عقله حتى زلت عنها وجاءته أسر ما كانت له منيته فعظمت ندامته وكسرت حسرته واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته، واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه وحسرة الموت بغصته غير موصوف ما نزل به، وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته، فذهب بكربه وغمه لم يدرك منها ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب، خرجا جميعًا بغير زاد، وقدما على غير مهاد فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية، لين مسها وسمها يقتل فاعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عاينت من فجائعها، وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك، وكن أسر ما تكون فيها احذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها، وثنى رجلًا عليه انقلبت به، فالسار فيها غار ، والنافع فيها غدا ضار، صل الرخاء فيها بالبلاء، واجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت فيها فينتظر. فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها ،باطلة، عيشها نكد وصفوها كدر ، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة وإما بلية نازلة وإما مصيبة موجعة وإما منية ،قاضية فلقد كدت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر ومن البلوى على حذر، ومن المنايا على يقين، فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر ، ولم يضرب لها مثلا، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر ، وفيها ،واعظ فما لها عند الله عز وجل قدر، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصغر، ولا تزن عند الله تعالى مقدار حصاة من الحصا، ولا مقدار ثراة في جميع الثرى، ولا خلق خلقا فيما بلغت أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتاً لها، ولقد عرضت على نبينا الله بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها، ولا ينقصه عند الله تعالى شيء، إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئًا فأبغضه، وصغر شيئًا ،فصغره، ووضع شيئًا فوضعه، ولو قبلها كان الدليل على حبه إياها قبولها، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثوابًا للمطيعين، وأن يجعل عقوبتها عذابًا للعاصين، فأخرج ثواب الطاعة منها، وأخرج عقوبة المعصية عنها، وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى زواها عن أ أنبيائه وأحبائه اختبارًا، وبسطها لغيرهم اعتبارًا واغترارًا، ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها، ونسي ما صنع بمحمد المصطفى ، وموسى المختار علم بالكلام له ،وبمناجاته، فأما محمد ﷺ فشد الحجر على بطنه من الجوع، وأما موسى عليا فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاما يأكله من جوعه ولقد جاءت الروايات عنه؛ أن الله تعالى أوحى إليه أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل . فقل : ذنب عجلت عقوبته، وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة، ففي أمره عجيبة، كان يقول أدمى الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام، أبيت وليس لي شيء، وليس أحد أغنى مني، ولو شئت ربعت بسلیمان بن داود ، فليس دونهم في العجب، يأكل خبز الشعير في خاصته، ويطعم أهله الخشكار، والناس الدرمك، فإذا جنه الليل لبس المسوح، وغل اليد إلى العنق، وبات باكيا حتى يصبح يأكل الخشن من الطعام، ويلبس الشعر من الثياب.
كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل، ويصغرون ما صغر الله تعالى، ويزهدون فيما فيه زهد، ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم، وأخذوا بآثارهم، وألزموا الكد والعير، وألطفوا التفكر وصبروا في مدة الأجل القصير عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها، ثم ألزموا أنفسهم الصبر، أنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي الروح ومكن اليوم، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي قد اشتد نتن ريحها، فكل من مر بها أمسك على أنفه منها ، فهم يصيبون منها لحال الضر، ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن، فقرنت عنهم، وكانت هذه منزلتها من أنفسهم، فهم يعجبون من الأكل منها شبعا، والمتلذذ بها أشرا، ويقولون في أنفسهم أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل، أما يجدون ريح النتن، وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة، غير أن أقواما استعجلوا الصبر ، فلا يجدون ريح النتن، والذي نشأ في ريح الإهاب النتن لا يجد نتنه، ولا
يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده، وقد يكفي العاقل منها أنه من مات عنها وترك مالا كثيرا، سره أنه كان فيها فقيرًا أو شريفًا أنه كان فيها وضيعا، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلى، أو كان مسلطنًا سره أنه كان فيها سوقة، وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة، وأشدهم فيها فاقة، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها.
والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئًا وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب غير أنه إذا أخذ منها شيئًا لزمته حقوق الله فيه، وسأله عنه، ووقفه على حسابه، لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته، وما يكفي حذر السؤال، وكراهية لشدة الحساب، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا، ولا تدري لعلك تموت قبله، فأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، غير أن أمس - وإن كان قد فجعك بنفسه - فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه، وقد كان عنك طويل الغيبة، وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدًا أيضا في يديك منه أمله، فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده، زدت في حزنك وتعبك، وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك، هيهات كثر الشغل، وزاد الحزن، وعظم التعب، وأضاع العبد العمل بالأمل، ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك، أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهم يومك، غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط، ودعاك إلى المزيد في الطلب.
ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية، وساعة آتية، وساعة أنت فيها ، فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتها لذة، ولا لبلائها ألما، وإنما الدنيا ساعة أنت فيها، فخدعتك تلك الساعة عن الجنة، وصيرتك إلى النار، وإنما اليوم إن عقلت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك، وهما يومان بمنزلة الأخوين، نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخر بعده، فقال: إني قد جئتك بعد أخي، فإن إحسانك إليَّ يمحو إساءتك إليه، ويغفر لك ما صنعت، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك، فلقد ظفرت بخلف منه إن عقلت فدارك ما قد أضعت، وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك إن تهلك بشهادتهما عليك، إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوما بقي من عمر صاحبه، فلا تبع اليوم ولا تعدله . من الدنيا بغير ثمنه، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيما لما في يديك منك وهو لك.
فلعمري لو أن مدفونًا في قبره، قيل له: هذه الدنيا أولها إلى آخرها تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك، فقد كنت وليس لك .هم غيرهم أحب إليك، أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك، لاختار ذلك، وما كان ليجمع مع اليوم شيئًا إلا اختار اليوم عليه رغبة فيه وتعظيما له، بل لو اقتصر على ساعة خيرها، وما بين أضعاف ما وصفت لك وأضعافه يكون لسواه إلا اختار الساعة لنفسه على أضعاف ذلك يكون لغيره، بل لو اقتصر على كلمة يقولها تكتب له وبين ما وصفت لك وأضعافه لاختار الكلمة الواحدة عليه، فانتقد اليوم لنفسك وأبصر الساعة وأعظم الكلمة واحذر الحسرة عند نزول السكرة، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة، نفعنا الله وإياك بالموعظة، ورزقنا وإياك خير العواقب، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وروي عن أبي عبيدة سعيد بن رزين قال: سمعت الحسن يعظ أصحابه يقول: إن الدنيا دار عمل من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأجحف بحظه من الله عز وجل، ثم أسلمته إلى ما لا له عليه، ولا طاقة له به من عذاب الله، فأمرها صغير ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب والله تعالى ولى ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل لا تبلى ولا يغيرها طول الثواء منها يخرجون، فاحذروا - ولا قوة إلا بالله - ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك المفلت، واقطع يا ابن آدم من الدنيا أكثر همك، أو لتقطعن حبالها بك، فينقطع ذكر ما خلقت له من
نفسك، ويزيغ عن الحق قلبك وتميل إلى الدنيا فترديك، وتلك منازل سوء بين ضرها منقطع نفعها، مفضية والله بأهلها إلى ندامة طويلة وعذاب شديد فلا تكونن يا ابن آدم مغترا، ولا تأمن ما لم يأتك الأمان منه، فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك، لم تخلص منها حتي ولا بد من ذلك المسلك، وحضور تلك الأمور، إما يعافيك من شرها، وينجيك من أهوالها وإما الهلكة، وهي منازل شديدة، مخوفة محذورة، مفزعة للقلوب، فلذلك فاعدد، ومن شرها فاهرب، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقاص من عمرك، فبادر أجلك، ولا تقل غدًا غدًا، فإنك لا تدري متى إلى الله تصير.
واعلموا أن الناس أصبحوا جادين في زينة الدنيا، يضربون في كل غمرة، وكل معجب بها هو فيه راض به حريص على أن يزداد منه، فما لم يكن من ذلك الله عز وجل وفي طاعة الله فقد خسر أهله وضاع سعيه، وما كان من ذلك في الله وفي طاعة الله فقد أصاب أهله به وجه أمرهم، ووفقوا فيه بحظهم عندهم كتاب الله وعهده، وذكر ما مضى وذكر ما بقى، والخبر عمن وراءهم، كذلك أمر الله اليوم، وقبل ذلك أمره فيمن مضى؛ لأن حجة الله بالغة والعذر بارز، وكل مواف الله ولما عمل، ثم يكون القضاء من الله في عباده على أحد أمرين، فمقضي له رحمته وثوابه، فيا لها نعمة وكرامة، ومقضي له سخطه وعقوبته، فيا لها حسرة وندامة، ولكن حق على من جاءه البيان بأن هذا أمره، وهو واقع أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم، أو ليس ما ذكر الله من الكراهة لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرئ عن عيشة دنياه، فإنها قد أذنت بزوال لا يدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها، يبلى جديدها، ويسقم صحيحها، ويفتقر غنيها، ميالة بأهلها، لعابة بهم على كل حال، ففيها عبرة لمن اعتبر وبيان فعلي منتظر .
الرئيسة